فصل: فَصْل في هجر أهل الأهواء والبدع:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: موارد الظمآن لدروس الزمان



.فَصْل في هجر أهل الأهواء والبدع:

ويجب هجر من كفر أَوْ فسق ببدعة أَوْ دعا إِلَى بدعة مضللة أَوْ مفسقة وهؤلاء هم أهل الأهواء والبدع.
وأما هجر من أظهر المعاصي وأعلنها فقِيْل: يسن. وقِيْل: يجب. قَالَ الإِمَام أحمد رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: إِذَا علم أنه مقيم على معصية وَهُوَ يعلم بذَلِكَ لم يأثُمَّ إن جفاه حَتَّى يرجع وإلا كيف يتبين للناس ما هُوَ عَلَيْهِ إِذَا لم ير منكر ولا جفوة من صديق.
وقَدْ هجر صلى الله عليه وسلم كعبًا وصاحبيه وأمر أصحابه بهجرهم خمسين يَوْمًا وهجر صلى الله عليه وسلم زوجاته شهرًا.
وهجرت عَائِشَة رضي الله عَنْهَا ابن اختها عَبْد اللهِ بن الزبير رضي الله عنهما مدة. وهجر جماعة من الصحابة وماتوا متهاجرين رضوان الله عَلَيْهمْ أجمعين.
قَالَ أبو داود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: إِذَا كَانَتْ الهجرة لله فلَيْسَ من هَذَا يعني من أحاديث الوعيد بالهجران بشَيْء.
فإن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم هجر بَعْض نسائه أربعين يَوْمًا. وابن عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ هجر ابنا لَهُ إِلَى أن مَاتَ.
والإمام أحمد رَضِيَ اللهُ عَنْهُ هجر جماعة ممن أجابوا فِي المحنة مثل يحيي بن معين وعلي ابن المديني وَغَيْرِهمَا مَعَ فخامة شأنهم.
وَكَمْ إمام هجر صديقًا لَهُ كَانَ عزيزًا عَلَيْهِ لولا إنتهاكه لمحارم الله فصار بذَلِكَ كالجماد بل أدنى ويكفي من ذَلِكَ قصة النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَعَ كعب وصاحبيه.
وَاللهُ أَعْلَمُ. وصلى الله على مُحَمَّد.

.موعظة:

عباد الله لَقَدْ تغير أكثر أهل هَذَا الزمن فِي أحوالهم الدينية تغيرًا يدهش ذوى العقول تغيرًا من أمعن النظر فيهم ظن أنهم ليسوا من فريق الْمُؤْمِنِينَ.
هذه الصَّلاة وهي عمود الإِسْلام آكد أركانه بعد الشهادتين أعرضوا عَنْهَا ولم يبالوا فيها جهلوا ما هِيَ الصَّلاة وأي قيمة قيمتها وما منزلتها بين سائر الطاعات.
أما علموا أنها أول ما ينظر فيه من عمل الْعَبْد يوم القيامة فَإِنَّ وجدت تامة صَالِحَة قبلت منه وسائر عمله، وإن وجدت ناقصة ردت إليه وسائر عمله ثُمَّ تَكُون كالثوب الخلق فيضرب بها وجه صاحبها.
عباد الله إن الصَّلاة عبادة ومنجاة وقربى نظامها الركوع والسجود مَعَ التذلل والخضوع وأقولها. القراءة والتسيبح والإبتهال إِلَى الله وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم وروحها الإخلاص لله وسرها إظهار العبودية والإستكانة لعظمة الرب جَلَّ وَعَلا.
إنها خمس صلوات فِي الْيَوْم واللَّيْلَة خمس وقفات يقفها الْعَبْد أمام سيده ومولاه خالقه ومدبر أمره ولها عَنْدَ الله ثواب خمسين صلاة شرعت لها الجماعة وأمر ببناء المساجد لأجلها وشرع لها الأذان لينتبه الغَافِل ويتذكر الناسي والجاهل إعلامًا لوقتها ليجتمَعَ المسلمون إليها ويؤدوها فِي جو يسوده الإخاء والمحبة والألفة.
وهي خَيْر العبادات وكَانَتْ قرة عين النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم كما فِي الْحَدِيث: «وجعلت قرة عينى فِي الصَّلاة». وكَانَ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «أرحنا يَا بلال بالصَّلاة».
عباد الله إن الصَّلاة كما علمتم عماد الدين ونور اليقين ومصدر البر ومبعث الْخَيْر العميم وعصمة لمن وفقه الله عَنْ الفحشاء والْمُنْكَر ونجاة من خزي الدُّنْيَا وعذاب الآخِرَة.
وقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيث: «الصَّلاة نور والصدقة برهان والصبر ضياء». وذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم يَوْمًا فقَالَ: «من حافظ عَلَيْهَا كَانَتْ لَهُ نورًا وبرهانًا ونجاة يوم... القيامة».
عباد الله إن الصَّلاة من أجل الشعائر الدينية وأعظم المظاهر الإِسْلامية ومن أشرف العبادات وهي خَيْر ما يتقرب به الْعَبْد إِلَى الله وقَدْ كَانَ صلى الله عليه وسلم يصلي حَتَّى تورمت قدماه.
عباد الله إِذَا فهمتم ما سبق من عظم شأن الصَّلاة فما بال قوم يهملونها ويتهاونون بها ويتكاسلون عَنْهَا عَنْدَ حلول وقتها، وما بال أقوم يؤدونها على عجل وعلى غير وجهها وينقرونها نقر الغراب كأنهم مكرهون عَلَيْهَا وينسون أنها وقفة أمام بديع السموات والأرض، فمن الْخَيْر أن تطول هَذِهِ الوقفة. قَالَ صلى الله عليه وسلم: «إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه؛ فأطيلوا الصَّلاة وأقصروا الخطبة».
ومن المؤسف أنَّ أكثر الخطباء الْيَوْم عملوا بخلاف ذَلِكَ فأطالوا الخطبة وقصروا الصَّلاة فلا حول ولا قوة إلا بِاللهِ.
عباد الله إن بَعْض النَّاس يؤدى الصَّلاة تعودًا لا تعبدًا وَهَذَا ما جعلها لا تنهاه عَنْ فحشاءٍ ولا منكر، لسان حالهم يَقُولُ: يَا إمام أرحنا من الصَّلاة.
عباد الله إن الله جَلَّ وَعَلا أنعم عَلَيْنَا بنعم عظيمة لا تعد ولا تحصى جعلنا من بني آدم وجعل لَنَا سمعًا وأبصارًا وأفئدة ومنحنا النَّشَاط والقوة وشد أسرنا ووهبنا الصحة والعافية والرزق وسهل عَلَيْنَا الحركة والسعى.
هَذَا البعض اليسير من نعمه كله كرمًا منه وتفضلاً ولم يطلب منا إلا دقائق من يوم طويل نشكره فيها ونحمده ونسأله أن يعفو عنا ويرزقنا ويرحمنا ويحفظنا وأولادنا وأهلنا. وهذه لاتخَرَجَ عَنْ كونها لخيرنا فِي الدُّنْيَا والآخِرَة.
فما لَنَا لا نقوم بهذه الدقائق بجد وإجتهاد وإخلاص ورغبة ونشاط ونسعى إِلَى مناجاة مولانَا وسيدنا راغبين ونحافظ على أوقات الصَّلاة ونقيمها على الوجه الأكمل، لا شك أن الْعَبْد عِنْدَمَا يحاسب نَفْسهُ يخجل ويستحي جدًا ويتذكر أن الصَّلاة التِي هِيَ صلة بينه وبين مولاه لا تأخذ من يومه إلا دقائق بينما لَهُ باقي الْيَوْم كله.
اللَّهُمَّ ارزقنا المعرفة على بصيرة بك وبأسمائك وصفاتك وَوَفِّقْنَا لما تحبه وترضاه من الأَعْمَال وجنبنا ما تكرهه ولا ترضاه من الأقوال والأعمال وآتنا فِي الدُّنْيَا حسُنَّة وَفِي الآخِرَة حسُنَّة وقنا عذاب النار يَا عزيز ويا غفار واغفر لَنَا ولوالدينا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين.

.فَصْل فيما ورد فِي الأخوة والألفة والصداقة فِي الله وفضل ذلك:

عن أَنَس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «ثلاث من كن فيه وَجَدَ بهن حلاوة الإِيمَان من كَانَ الله ورسوله أحب إليه مِمَّا سواهما ومن أحب عبدًا لا يحبه إلا لله». الْحَدِيث رَوَاهُ الْبُخَارِيّ ومسلم والترمذي والنسائي.
وَفِي رواية: «ثلاث من كن فيه وَجَدَ بهن حلاوة الإِيمَان وطعمه: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مِمَّا سواهما، وأن يحب فِي الله ويبغض فِي الله». الْحَدِيث رَوَاهُ الْبُخَارِيّ ومسلم.
وعن أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تَعَالَى يَقُولُ يوم القيامة أين المتحابون بجلالي، الْيَوْم أظلهم فِي ظلي يوم لا ظِلّ إلا ظلي». رَوَاهُ مُسْلِم.
وعن أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «سبعة يظلهم الله فِي ظله يوم لا ظِلّ إلا ظله: الإِمَام العادل، وشاب نشأ فِي عبادة الله، ورجل معلق قَلْبهُ فِي المساجد، ورجلان تحابا فِي الله اجتمعا عَلَيْهِ وتفرقا عَلَيْهِ، ورجل دعته امراة ذات منصب وجمال فقَالَ: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفلها حَتَّى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خَالِيًا ففاضت عَيْنَاهُ». رَوَاهُ الْبُخَارِيّ ومسلم وَغَيْرِهمَا.
وعن أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «أن رجلاً زار أخًا لَهُ فِي قرية أخرى فأرصد الله على مدرجته ملكًا فَلَمَّا أتى عَلَيْهِ قَالَ: أين تريد؟ قَالَ: أخًا لي فِي هَذِهِ القرية. قَالَ: هل لَكَ عَلَيْهِ من نعمة تربها؟ قَالَ: لا غير أني أحبه لله. قَالَ: فإني رسول الله إليك أن الله قَدْ أحبك كما أحببته فيه». رَوَاهُ مُسْلِم.
وعن أبي مُسْلِم قَالَ: قُلْتُ لمعاذ: وَاللهِ أني لأحبك لغير دنيا أرجو أن أصيبها منك ولا قرابة بيني وبينك. قال: فبأي شيء؟ قلت: لله. قال: فجذب جبوتي ثم قَالَ: أبشر إن كنت صادقًا فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «المتحابون فِي الله فِي ظِلّ العرش يوم لا ظِلّ إلا ظله، يغبطهم بمكانهم النبيون والشهداء». قَالَ: ولقيت عبادة بن الصامت فحدثته بحديث معاذ.
وَكُلُّ مَحَبَّةٍ فِي اللهِ تَبْقَى ** عَلَى الْحَالَيْنِ فِي سِعَةٍ وَضِيقِ

وَكُلُّ مَحَبَّةٍ فِيمَا سِوَاهُ ** فَكَالْحَلَفَاءِ فِي لَهَبِ الْحَرِيقِ

آخر:
إِذَا اعْتَذَرَ الصَّدِّيقَ إِلَيْكَ يَوْمًا ** مِنَ التَّقْصِير عُذْر فَتَىً مُقِرّ

فَصِنْهُ مِنْ عِتَابِكَ وَاعْفُ عَنْهُ ** فَإِنَّ الْعَفْوِ شِيمَةُ كُلَّ حُرّ

آخر:
لا تَهْجُرَنَّ أَخَاكَ إِنْ أَبْصَرْتَهُ ** لَكَ جَافِيًا وَلِمَا تُحِبُّ مُجَافِيَا

فَالْغُصْنُ يَذْبُلُ ثُمَّ يُصْبِحُ مَورِقًا ** وَالْمَاء يَكدُّرُ ثُمَّ يُصْبِحُ صَافِيًا

فقَالَ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ عَنْ ربه تبارك وتَعَالَى: «حقت محبتي على الْمُتَحَابِّينَ فِيَّ، وحقت محبتي على المتناصحين فِيَّ، وحقت محبتي على المتباذلين فِيَّ. هم على منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء والصديقون». رَوَاهُ ابن حبان فِي صحيحه.
وعن عبادة بن الصامت رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأثر عَنْ ربه تبارك وتَعَالَى يَقُولُ: «حقت محبتي للمتحابين فِيَّ، وحقت محبتي للمتواصلين فِيَّ، وحقت محبتي للمتزاورين فِيَّ، وحقت محبتي للمتباذلين فِيَّ». رَوَاهُ أحمد بإسناد صحيح.
وعن أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إن من عباد الله عباد ليسوا بأنبياء يغبطهم الأَنْبِيَاء والشهداء». قِيْل: من هم لعلنا نحبهم. قَالَ: «هم قوم تحابوا بنور الله من غير أرحام ولا أنساب، وجوهم نور على منابر من نور لا يخافون إِذَا خاف النَّاس ولا يحزنون إِذَا حزن النَّاس».
ثُمَّ قرأ: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}. رَوَاهُ النسائي فِي صحيحه واللفظ لَهُ وَهُوَ أتم.
وعن عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إن من عباد الله لأناسًا ما هم بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأَنْبِيَاء والشهداء يوم القيامة بمكانهم من الله». قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ فأخبرنا من هم.
قَالَ: «هم قوم تحابوا بروح الله على غير أرحام بينهم، ولا أموال يتعاطونها، فو الله إن وجوهم لنور وإنهم لعلى نور ولا يخافون إِذَا خاف النَّاس ولا يحزنون إِذَا حزن النَّاس». وقرأ هَذِهِ الآية: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} رَوَاهُ أبو داود.
وعن عمار بن ياسر أن أصحابه كَانُوا ينتظرونه فَلَمَّا خَرَجَ قَالُوا: ما أبطاك عنا أيها الأمير قَالَ: أما إني سوف أحدثكم أَنَّ أخًا لكم ممن كَانَ قبلكم وَهُوَ مُوَسى عَلَيْهِ السَّلام قَالَ: يا رب حدثني بأحب النَّاس إليك قَالَ: ولم. قَالَ: لأحبه بحبك إياه.
قَالَ: «عبد فِي أقصى الأرض أَوْ طرف الأرض سمَعَ به عبد آخر فِي أقصى أَوْ طرف الأرض لا يعرفه فَإِنَّ أصابته مصيبة فكأنما أصابته، وإن شاكته شوكتة فكأنَّما شاكته لا يحبه إلا لي فَذَلِكَ أحب خلقي إِلَي».
قَالَ: يَا رب خلقت خلقًا تدخلهم النار أَوْ تعذبهم فأوحى الله إليه. «كلهم خلقي. ثُمَّ قَالَ: ازرعْ زرعًا فَزَرَعَهُ فقَالَ: اسقه. فسقاه ثُمَّ قَالَ: قم عَلَيْهِ ما شَاءَ الله من ذَلِكَ فحصده ورفعه فقَالَ: ما فعل زرعك يَا مُوَسى؟ قَالَ: فرغت منه ورفعته. قَالَ: ما تركت منه شَيْئًا؟ قَالَ: ما لا خَيْر فيه أَوْ ما لا حَاجَة لي فيه. قَالَ: فكَذَلِكَ أَنَا لا أعذب إلا من لا خَيْر فيه».
قَالَ: ولو لم يكن فِي محبة الله إلا أنها تنجي محبة من عذابه لكَانَ ينبغي للعبد أن لا يتعوض عَنْهَا بشَيْء أبدًا. وسئل بَعْض الْعُلَمَاء: أين تجد فِي القرآن أن الْحَبِيب لا يعذب حبيبه؟ فقَالَ فِي قوله تَعَالَى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم}. الآية.
اللَّهُمَّ وَفَّقَنَا لتدبر كتابك وإطالة التامل فيه وجمَعَ الفكر على معاني آياته. اللَّهُمَّ ثَبِّتْ قواعد الإِيمَان فِي قلوبنا وشيد فيها بنيانه ووطد فيها أركانه وألهمنا ذكرك وشكرك وآتنا فِي الدُّنْيَا حسُنَّة وفي الآخِرَة حسُنَّة وقنا عذاب النار. وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
موعظة:
عباد الله لَقَدْ غفلت الألسُنَّة الْيَوْم عَنْ ذكر الله غَفْلَة تسر إبلَيْسَ وجنوده ولما غفلت الألسُنَّة غفلت الْقُلُوب عَنْ مُرَاقَبَة الله فِي السِّرّ والعلانية، ولما غفلت الْقُلُوب والألسُنَّة عَنْ ذكر الله اندفعت الْجَوَارِح فِي ميدان المعاصى إندفاعًا لا يصدق به إلا من تأمل النَّاس فِي تفننهم فِي الشرور وتسابقهم إليها.
من تقليد للأجانب وشرب لدخان ومعاملات لا تجوز ونفاق وغش ونهش لأعراض الغافلين وخداع ومكر ورياء وربا وكبر وحسد وسماع للملاهي وحضورها وعقوق وشهادة زور ورشاء ومداهنات ونم وكذب ونحو ذَلِكَ.
ولو تحركت الألسُنَّة بذكر الله لاستيقظت الْقُلُوب من غفلاتها القاتلات ولو استيقظت الْقُلُوب والتفتت إِلَى ذكر علام الغيوب ما رأيت جارحة من الْجَوَارِح تلتفت لشئ من المحظورات فَإِنَّ الغَفْلَة عَنْ ذكر الله هي أصل الشرور واليقظة هِيَ أصل الْخَيْر والسعادة فِي الدُّنْيَا والآخِرَة بإذن الله تَعَالَى.
وإليك نماذج من كنوز ذكر الله تَعَالَى أولها كلمة الإخلاص لا إله إلا الله فَإِنَّهَا ترجح بكل ما سواها حَتَّى على الأرض والسماوات، وسبحان الله والحمد لله والله أكبر. فقَدْ رُوِي عَنْ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قَالَ: «لأن أقول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر أحب إِلَى مِمَّا طلعت عَلَيْهِ الشمس». رَوَاهُ مُسْلِم والترمذي.
وَمَنْ يُنْفِقُ السَّاعَاتِ فِي الذِّكْرِ رَابِحٌ ** يَفُزْ يَوْمَ لا ظِلٌّ سِوَى ظِلِّ رَبِّه

آخر:
مَنْ لَمْ يَكُنْ وَقْتُهُ ذِكْرٌ وَقُرْآنُ ** فَإِنَّ أَوْقَاتَهُ نَقْصٌ وَخُسْرَانُ

وعن أم هانئ قَالَتْ: مر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ قَدْ كبرت سني وضعفت أَوْ كما قَالَتْ: فمرني بعمل أعمله وأنَا جالسة.
قَالَ: «سبحي الله مائة مرة فَإِنَّهَا تعدل مائة رقبة تعتقينها من ولد إسماعيل، واحمدي الله مائة تحميدة فَإِنَّهَا تعدل لَكَ مائة فرس مسرجة ملجمة تحملين عَلَيْهَا فِي سبيل الله، وكبري الله مائة تكبيرة فَإِنَّهَا تعدل لَكَ مائة بدنة متقلبة، وهللي الله مائة تهليلة».
قَالَ أبو خلف أحسبه قَالَ: تملأ ما بين السماء والأرض ولا يرفع يومئذ لأحد عمل أَفضل مِمَّا يرفع لَكِ إلا أن يأتي بمثل ما أَتيت. رَوَاهُ أحمد بإسناد حسن واللفظ لَهُ والنسائي ولم يقل ولا يرفع إِلَى آخره ولا حول ولا قوة إلا بِاللهِ دواء من تسعة وتسعين داء أيسرها الْهَّمّ كما فِي الْحَدِيث الذي رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ.
ولا حول ولا قوة إلا بِاللهِ كنز من كنوز الْجَنَّة وقول أعوذ بكلمَاتَ الله التامَاتَ من شر ما خلق حفظ لقائلها من العقرب ونحوها. ومن قَالَ: رضيت بِاللهِ ربًا وبالاسلام دينًا وبمُحَمَّد رسولاً فليبشر بأن النبي صلى الله عليه وسلم زعيم لمن قالها: إِذَا أصبح أن يدخل الْجَنَّة.
وقل: إِذَا أصبحت اللَّهُمَّ ما أصبح بي من نعمة أَوْ بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لَكَ، فلك الحمد ولك الشكر لتؤدي شكر يومك وقل مثلها إِذَا أمسيت لتؤدي شكر ليلتك.
إِذَا مَا الْمَرْءُ أَخْطَأه ثَلاثٌ ** فَبِعْهُ وَلَوْ بِكَفٍ مِنْ رَمَادٍ

رِضَا الرَّحْمَن مَعَ صِدْقٍ وَزُهْدٍ ** فَخُذْهَا وَاحْفَظَنْهَا فِي الْفُؤاد

آخر:
وَلوْلا ثَلاثٍ هُنَّ مِنْ لَذَّةِ الْفَتَى ** وَرَبُّكَ لَمْ أَحْفِلْ مَتَى قَامَ عُوَّدِي

سِيَاحَةُ قَلْبِي فِي رِيَاضٍ أَرِيضَةً ** مِن الْعِلْمِ مُجْتَازًا عَلَى كُلِّ مَوْرِدِ

وَتَسْبِيحُنَا للهِ جَلَّ جَلالُهُ ** عَشِيًّا وَبِالإِبْكَارِ فِي كُلِّ مَسْجِدِ

وَتَرْتلُ آيَاتِ الْكِتَابِ مُنَوِّرًا ** بِهَا جَوْفَ لَيْلَ فِي قِيَامِ التَّهَجُّد

اللَّهُمَّ يا حي يَا قيوم يَا من لا تأخذه سُنَّة ولا نوم مكن محبتك فِي قلوبنا وقوها وألهمنا ذكرك وشكرك وأعنَّا على القيام بِطَاعَتكَ والانتهاء عَنْ معصيتك، اللَّهُمَّ افتح لدعائنا باب القبول والإجابة فإِنَّا ندعوك دعاء من كثرت ذنوبه وتصرمت آماله وبقيت آثامه وانسبلت دمعته وانقطعت مدته دعاء من لا يرجو لذنبه غافرًا غيرك ولا لما يؤلمه من الخيرات معطيًا سواك يا رب العالمين. وَصَلّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
فَصْلٌ:
وعن أبي مالك الأشعري رضي الله عَنْهُ عَنْ رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «يَا أيها النَّاس اسمعوا واعقلوا واعلموا أن لله عَزَّ وَجَلَّ عبادًا ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبطهم النبيون والشهداء على منازلهم وقربهم من الله».
فجثى رجل من الأعراب من قاصية النَّاس وألوى بيده إِلَى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ ناس ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأَنْبِيَاء والشهداء على مجالسهم وقربهم من الله انعتهم لَنَا جلهم لَنَا- يعني صفهم لَنَا-. فسر وجه النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم بسؤال الأعرابي. فقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «هم ناس من أفناء النَّاس ونوازع القبائل لم تصل بينهم أرحام متقاربة تحابوا فِي الله وتصافوا يضع الله لَهُمْ يوم القيامة منابر من نور فيجلسون عَلَيْهَا فيجعل وجوهم وثيابهم نورًا يفزع النَّاس يوم القيامة ولا يفزعون وهم أولياء الله لا خوف عَلَيْهمْ ولا هم يحزنون». رَوَاهُ أحمد وأبو يعلى بإسناد حسن والحاكم وقَالَ: صحيح الإسناد.
وعن أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إن فِي الْجَنَّة لعمدًا من ياقوت عَلَيْهَا غرف من زبرجد لها أبواب مفتحة تضيء كما يضيء الكوكب الدري»، قَالَ: قلنا: يَا رَسُولَ اللهِ من يسكنها؟ قَالَ: «المتحابون فِي الله والمتباذلون فِي الله والمتلاقون فِي الله». رَوَاهُ البزار.
وعن بريدة رضي الله عَنْهُ عَنْ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إن فِي الْجَنَّة غرفًا تَرَى ظواهرها من بواطنها وبواطنها من ظواهرها أعدها الله للمتحابين فيه والمتزاورين فيه والمتباذلين فيه». رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي الأوسط.
وعن أَنَس رضي الله عَنْهُ أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: متى الساعة؟ قَالَ: «وما أعددت لها». قَالَ: لا شَيْء إلا إني أُحبُّ الله ورسوله. قَالَ: «أَنْتَ مَعَ من أحببت». قَالَ أَنَس: فما فرحنا بشَيْء فرحنا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أَنْتَ مَعَ من أحببت». قَالَ: أَنَس فأنَا أحب النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وأرجو أن أكون معهم بحبي إياهم. رَوَاهُ مُسْلِم.
ففي هَذَا الْحَدِيث بشارة لمن أحب الله ورسوله وأصحابه ومن اتبعهم واقتدى بِهُمْ ولهَذَا فرح أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بهَذَا النبأ الحسن واغتبطوا لَهُ اغتباطًا فائقًا وإنما سروا به وفرحوا لأنهم كَانُوا يقيسون أنفسهم على شخص النبي صلى الله عليه وسلم فِي العبادة وكَانَ صلى الله عليه وسلم يأمر بالْقَصْد فيها والرفق بأنفسهم.
ففي حديث الْبُخَارِيّ عَنْ عَائِشَة رضي الله عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إِذَا أمرهم، أمرهم من الأَعْمَال ما يطيقون، ويقولون: إِنَّا لسنا مثلك يَا رَسُولَ اللهِ إنَّ الله قَدْ غفر لَكَ ما تقدم من ذنبك وما تأخر. فيغضب حَتَّى يعرف فِي وحهه.
ثُمَّ يَقُولُ: «أما وَاللهِ إني لأخشاكم لله وأتقاكم لَهُ». وكأنهم يقولون أَنْتَ مغفور لَكَ فلا تحتاج إِلَى كثرة أعمال بخلافنا فرد عَلَيْهمْ صلى الله عليه وسلم بقوله: «أَنَا أولاكم بذَلِكَ لأني أتقاكم وأعلمك بِاللهِ».
مَنْ كَانَ كَذَلِكَ يكثر أعماله وتعظم عبادته لشدة خوفه من ربه وتمام معرفته بما يليق بجلال الله وعظمته ولأن نعم الله عَلَيْهِ أكثر من غيره قَالَ الله تَعَالَى: {وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً} ولهَذَا سر الصحابة بما قاله النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لهَذَا الرجل السائل.
وقَالُوا: فما فرحنا بشَيْء فرحنا بقول الرَّسُول صلى الله عليه وسلم: «أَنْتَ مَعَ من أحببت» لما وفقك الله لَهُ من حسن النِّيْة والْقَصْد من غير اجهاد فِي الْعَمَل وزيادة فِي العبادة.
والحق أنه لا يتم ولا يكتمل إيمان الإنسان إلا بإيثار النبي صلى الله عليه وسلم بالمحبة والتعَظِيم على سائر خلق الله ففي الْحَدِيث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حَتَّى أكون أحب إليه من والده وولده». وفي رواية: «والنَّاس أجمعين».
ومن علامَاتَ محبته إيثار رضاه والْعَمَل بشريعته ونصر سنته والتآسي به فِي شمائله وسيرته الكريمة المباركة أما من ادَّعَى محبته ولم يؤثر بالْعَمَل شريعته فتلك دعوى باطلة وتبجح كاذب لأن صاحبها لم يقم حجة على صحة دعواه وأحقية ما ادعاه.
اللَّهُمَّ وَفَّقَنَا لمحبتك ومحبة رسلك وأوليائك وعبادك الصالحين واغفر لَنَا اللَّهُمَّ اسلك بنا سبيل الأبرار وَاجْعَلْنَا مِنْ عبادك المصطفين الأخيار وامنن عَلَيْنَا بالعفو والعتق من النار واغفر لَنَا ولوالدينا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
فَصْل:
عن الوليد بن أبي مغيث عَنْ مجاهد قَالَ: إِذَا التقى المسلمان فتصافحا غفر لهما. قَالَ: قُلْتُ لمجاهد: بمصاحفة لهما؟ قَالَ مجاهد: أما سمعته يَقُولُ: {لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ}. فقَالَ الوليد لمجاهد: أَنْتَ أعْلَمُ مني.
وعن سلمان الفارسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إن المسلم إِذَا لقى أخاه المسلم فأخذ بيده تحاتت عنهما ذنوبهما كما تحات الورق عَنْ الشجرة اليابسة فِي يوم ريح عاصف وإلا غفر لهما ذنوبهما ولو كانت مثل زبد البحار».
وقَالَ أبو عمرو الأوزعي حدثني عبدة بن لبابة عَنْ مجاهد ولقيته فأخذ بيدي فقَالَ: إِذَا التقا المتحابان فِي الله فأخذ أحدهما بيد صاحبه وضحك إليه تحاتت خطاياهم كما تحات ورق الشجر. قَالَ عبدة: فَقُلْتُ لَهُ: هَذَا يسير؟ فقَالَ: لا تقل ذَلِكَ فَإِنَّ الله يَقُولُ: {لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ}. قَالَ عبدة: فعرفت أنه أفقه مني.